حوار: محمد شلال الحناحنة

 

صالح الجيتاوي، شاعر مهندس يحفظ القرآن الكريم، ويتجلى هذا القبس القرآني في مُعظم شعره، وخلال أمسية شعرية، استطاع أن ينقلنا من هندسة البناء إلى هندسة القصيدة؛ حيث أفضى بالمجتمع بهذا الحوار.

• لنبدأ من جيت قريتك الفلسطينية المحتلة كيف هيأتك للشعر أو هيأتها لنبض الحروف الطفولية الأولى؟!

• جيت، قصيدة شاردة في براري الوطن الكبير من زيتونة إلى نخيله، ومن شيحه إلى أقحوانة، وفي ثنايا الذاكرة المستباحة من الأرخبيل الإندونيسي إلى موريتانيا، تركض من الصباح إلى المساء في عيون الصقور العازمة على تحقيق الحلم الغائب الحاضر خلف ستار من الوهم تتنفس بسواعدها ومناجلها المرفوعة في وجوه الغاصبين المجرمين الذين غضب الله عليهم ولعنهم وكتب عليهم الذلة والمسكنة إلا بحبل من الله وحبال منسوجة بمسلات الجامعة العربية وقمعها المضحكة المبكية، وخيوط النصرانية المتهودة من أحفاد لويس وأرناط، يكاد يقتلها القهر والإحباط لولا عزمها الراسخ على مواصلة الشوط واستنبات الحسنات بين ركام الكبائر، فتزهر إحداها في أرواح الطيور الخضر، وأخرى على مئذنة مسجدها العمري الشاهد على وصية الجد الأول والمتبتل بحكمة الشيخ أحمد بن مري بن ربيعة الجيتي منذ القرن السابع للهجرة تلك المئذنة المتدثرة بعباءة صلاح الدين التي استقدمها خصيصاً من مضارب شيبان ليفك بها طلاسم منديل ريكاردوس بضربة سيف وحسنة أخرى على جنح زريقي مهاجر جواب أفاق بين صدور البهجة وأسنة الرماح المشرعة في وجهه مملوك من الحد إلى الحد خلا دعوة على عتبات العز المنشود، ودمعة تيبست على نافذة الروح واهة زهراوية من صدى الصحراء اللانهائية بين الصباح والأشباح هكذا هيأتني، أما أنا فما هيأتها بعد، وقد تأخرت كثيراً وأخشى أنه فات الأوان بالنسبة لي، لأنها لا تنفعل إلا لحروف الشين والهاء والياء والدال.

• أنت شاعر مهندس، هل لك أن تبين لنا هندسة القصيدة وبنائها الداخلي لديك؟

• ليس عندي قواعد ثابتة أو نظرية معينة ينضبط بموجبها المبنى الداخلي لقصيدتي، والذي يحدث عادة أنك تجدني في ظرف ماء مهيأ لاستقبال موجة شعرية جديدة، وفي لحظة خاطفة تبدأ الإشراقة الأولى، ثم يبدأ البناء عليها برفق وتركيز نفسي وعقلي كبيرين، وفي بعض الأحيان أجد بعد هذه الإضافات الأولية أن هذا النص أو الإبداع الجديد غير موفق في موسيقاه أو لغته أو معانيه فأهمله أو أعدمه بانتظار إشراقة جديدة، أما إذا قررت مواصلة البناء عليه، فإنني عندئذ أترك نفسي على سجيتها الشعرية بلا أي ضوابط حيث المعاني أو العواطف أو الصور أو المفردات إلى أن تتشكل عندي مجموعة بالقدر المناسب اللازم لتغطية حدود قدرتي العقلية والنفسية، وعندئذ تبدأ مرحلة الهندسة – الصنعة- بالهدم والبناء داخلياً وتغيير العناصر الأولية – المفردات وإعادة تشكيلها وتغيير مواقعها إلى أن تنتظم تلك العناصر في عقد جميل متناسق بجزئياته وجمله ومجمله، والحقيقة أن عمليات التشكيل لا تتوقف عندي إلا لحظة المراجعة النهائية للديوان عند صف الأحرف؛ حيث تخرج عن ملكيتي، وقد تستمر هذه العمليات أيّاماً أو شهوراً أو سنوات.

• قلت في مذمة ديوانك “صدى الصحراء” الشعر الحق في رأيي هو إحدى صور الممارسة الحقيقية للحياة الإنسانية وإشراقات الروح الإيمانية، هل لك أن تلقي إضاءة أوسع على هذا القول؟

الله سبحانه هو خالق هذا الكون بما فيه، ومن فيه، وهو مبدعه وحافظه والإنسان بما وهبه الله من عقل وروح وحواس له ممارسات كثيرة، أغلبها لا يترك أثراً على مهمة الاستخلاف المنوطة به والقليل منها يفعل في هذا الاتجاه وهو ما يسمى الإبداع الإنساني في مجالات العقل والروح من علوم وفنون رائدة مما يبقى أثره على منظومة الكون والإنسان والحياة على مدى الأجيال ومنها الشعر.

• ما زال شعر الأطفال يطرح إشكالية في لغته وموضوعه وإيقاعه ترى ما أسباب هذه الإشكالية كونك أحد من كتبوا للأطفال؟ 

• لا اعتبر نفسي حتى الآن ممن كتبوا للأطفال بالقدر الذي يشكل وحدة متكاملة أو شخصية متميزة، ولكنها بعض القصائد، وآمل أن يعين الله على استكمالها للهدف المنشود. ومع ذلك أقول: إن شعر الأطفال يطرح تلك الإشكالية؛ لأن نفسية الطفل وعقله كالصفحة البيضاء، حساسة جداً لأي مؤثر خارجي من حيث القبول ورد الفعل، وأي خطأ يمارس عليها يبقى أثره حتى النهاية، والمتغيرات كثيرة من حيث المؤثرات والنتائج والميول وأسلوب التلقين والتقييم والتحليل والألوان والمؤشرات والمرتكزات؛ ولذلك تتغير النظريات التربوية للأطفال من الاتجاه إلى نقيضه فما يعتقد أنه يصلح اليوم يثبت غداً أن هناك أفضل منه لغة وهدفاً وإيقاعاً، وما قد يصلح لبيئة قد لا يصلح لغيرها، وما يلائم زمن السلم لا يلائم زمن الحرب، وبما أن الشعر ليس إلا إحدى وسائل التنمية العقلية والنفسية والوجدانية للطفل ضمن إطار تربوي معين مستند إلى فلسفة أو عقيدة معينة، فإنه يطرح بالضرورة تلك الإشكالية.

• الكوليرا والموت والشعر الحر إحدى مخطوطاتك القادمة ما وجه المقارنة بين تلك العناصر التي قد تبدو متجانسة في ظاهرها؟

بين الكوليرا والموت علاقة عضوية وثيقة في وجدان الإنسان بوجه عام، صحيح أن الإمكانات الطبية المعاصرة خففت كثيراً من أخطار الكوليرا، إلا أن هذه الكلمة لم تغادر مكانها في وجدان الإنسان كنذير للموت، من هنا يظهر مدى التجانس بين الكلمتين خلافاً لما يطرحه السؤال أما عن علاقة ذلك بالشعر الحر فتعتمد على مفهومنا للشعر الحر فإذا كان المقصود ذلك الشعر القائم على التفعيلة كوحدة بناء القصيدة بدلاً من البيت مع المحافظة على موسيقى الشعر وخصائصه اللغوية والفنية الأخرى، فإنه من الممكن التسليم بأن هناك عدم تجانس إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد واستمرت القصيدة الحديثة سبية بين أيدي العجز والجهل والتآمر ففقأت عينيها وجزت شعرها واستثبت منها كل نسخ الحياة ونبضها ويقيت جثة هامدة فيما يعرف بقصيدة النثر- عجباً- وفي هذه الحالة يتلاشى عدم التجانس بين الكوليرا والموت والشعر الحر لأنها جميعاً تشير إلى العدم حسياً ووجدانياً.

• بين ديوانك الأول – صدى الصحراء -وديوانك الجديد – قناديل على مآذن القدس مسافة زمنية تقارب العقدين، أين كنت وما أثر السنين على تجربتك الشعرية؟؛ وماذا عن كتابك قول «متدارك على البحر المتدارك»؟

استمر نشاطي الشعري بعد صدور صدى الصحراء، ۱۹۸۳م كتابة ونثراً حتى أواخر الثمانينيات، ثم بدأ يخف شيئاً فشيئاً، وبدأت أتحول إلى القرآن الكريم؛ حيث أعانني الله سبحانه وأكرمني بحفظه ضمن منهج استغرق أغلبية وقتي لسنوات عديدة، وكانت هناك أسباب أخرى منها؛ الانشغال الضروري بشؤون الحياة وما فيها من متطلبات مختلفة ويمكن أن نضيف سبباً نفسياً وهو حالة الركود والتراجع في أحوال الأمة الإسلامية في المجالات كلها، وما قد يبعثه ذلك في النفس من إحباط وعدم وجود محفزات لإطلاق كوامن الضمير والوجدان من أشواق، والتعبير عما فيها من انفعالات، ثم بدأت العودة تدريجياً بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى وبطولات المجاهدين في فلسطين إلى يومنا هذا؛ حيث تجمعت لدي مجموعات من القصائد وهي الواردة في ديوان «قناديل على مآذن القدس».

أما أثر السنين على تجربتي الشعرية فهو واضح جداً في الشكل والمضمون، بل اعتقد أن هناك نقلة نوعية واضحة ما بين «صدى الصحراء»، وقناديل على مآذن وأترك للقارئ الحصيف أن يحكم بناء على فهمه وذوقه.

أما عن كتابي “قول متدارك على البحر المتدارك”، وهو كما تعلم يتعلق بتفعيلة «فاعل» التي لم تكن مشرعة قبل ذلك في أصول علم العروض، وكان البحر المتدارك يشتمل على تفعيلات« فاعلن وفعلن بكسر العين وفعلن بتسكينها» أما فاعل بكسر العين وضم اللام فقد وردت تلقائياً في كتابات الشعراء في القرون الأخيرة دون استثناء دون أن ينتبهوا – إلا القليل منهم إلى أنها غير شرعية، وهذا ما حدث معي؛ حيث نبهني أديب صديق إلى ذلك ومن هنا كان هذا البحث العروضي، وقد تم توزيع آلاف النسخ منه، ولم يستطع أديب أو شاعر على الإطلاق أن ينفي أو يفند ما فيه، وإنما استقبلته الأغلبية بالاستحسان والقليل منهم دون أي تعليق ربما لأسباب  شخصية وليست موضوعية.